في سبيل الشهادة

ها قد أرخى الليل جلبابه المهيب على هذا الفضاء، وأسكرت نسماته أنفاس الخلق؛ فضربت على آذانهم ،وأذبلت جفونهم،

وأرخت عضلاتهم؛ فأووا الى الفرش الرفيعة ،تاركين وراء ظهرانهم أتعاب النهار تذوب في أحلام المنام اللذيذة .

في ذلك اليوم جفاني النوم ،وأصبت بأرق شديد ،حتى اذا ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت وجدتني

جسدا حيا بين أموات، فارقت مضجعي وخرجت أهتك ستر هذا الظلام؛ فقد سمعت أن خلف نقاب الليل تحتجب مكنونات

النهار، وعلى خشبته تمثل أدوار الجريمة والرعب تارة، والحزن والبكاء أخرى. مررت بمسكن يطل منه نور ضئيل وينبعث

منه صوت متقطع كسرت موجاته عبرات متوالية: نم يا ولدي فهو ذا الليل لا يلبث أن يطوي رداءه، وخذ قسطك من الراحة

فسرعان ما يقبل النهار بردائه الملطخ بدم الشهداء؛ فيمتص سكون الليل ويئد هدوءه ،والأرض يا ولدي استشهد أبوك ولما

يقلب تربتها ويبذر حبها، وقد أوصاني بعد خروجه بها خيرا؛ نتعهدها ونسقيها بدموعنا وعرق جبيننا، واذا اقتضى الحال يا

ولدي فدمنا لها فداء، فقد رواها أبوك بدمه حين جاء ذلك الأجنبي ينزعها منه نزعا، فأهوى عليه بمعوله قبل أن تخترق

الرصاصات قلبه، وتصعد أنفاسه الطاهرة الى السماء، فهو هناك يا فلدة كبدي في النعيم ينظر الينا ويفرح بصنيعنا ،فلا

تبكي على حي يرزق في جنان الرحمان. آنذاك أجاب الصبي بصوته المتهدج :

بل هي دموع الفرح يا أماه، فغدا ألحق بالوالد الحبيب ،وأكون بجوار الرحمان؛ فقد أعددت ورفاقي عدة لهذا العدو الملعون

ستؤدي به الى هوة الجحيم، تعالي وتحسسي موضع الحزام ؛هذه متفجرات ستحصد أرواحهم .ولا تجزعي يا أمي فليست

هذه هي الحياة ؛انما الحياة هناك، أما هذه فسجن لا نخلص منه الا بالتضحية والجهاد. ردت الأم والعبرات تخنقها:

بورك فيك يا ولدي تعال الى أحضاني أودعك هذا اليوم، وبعد غد ان شاء الله ألحق بكما. وطفقا يرويان الأرض

بدموعهما. فذهلت لصمود الأم وولدها وعزيمتهما الثابتة. وجلست قرب الباب أشاركهما البكاء حتى انقشع سواد

الليل .